Designed by Freepik

mercredi 30 octobre 2013

سيدي بوزيد... والإرهاب



سيدي بوزيد والإرهاب


أيوب المسعودي

29 أكتوبر 2013


انتقلت يوم أمس الثلاثاء إلي سيدي بوزيد وخاصة معتمدية سيدي علي بن عون، مسرح العملية الإرهابية التي أودت مؤخرا بحياة عدد من أبنائنا الأمنيين أثناء قيامهم بالواجب المقدس، ومعتمدية بئر الحفي المحاذية لها فكان لي حديث مطول مع بعض أبناء المنطقة وأحد جرحى الأمنيين. سأحاول في هذا المقال، قدر المستطاع، تناول المسألة من زاوية تحليلية عقلانية اجتماعية وانطلاقا من عقيدة التأسيس التي تحدثت عنها، بعيدا عن الشيطنة أو التمجيد لهذا أو ذاك. كلامي هنا قد لا يعجب البعض ولكنه ينطلق من واجبي الوطني وغيرتي على الأمنيين الذين بعثوا إلى جبهة الموت دون الاستعداد الكافي.


عملية سيدي علي بن عون؟

في مسرح الجريمة : ما بعد العملية

انتقلنا أولا، رفقة بعض الأصدقاء، إلى مسرح المجزرة التي جدت في المنطقة الفاصلة بين المعهد الثانوي بسيدي علي بن عون والسلسلة الجبلية الواقعة وراءه. لم يسهل التعرف على موقع المنزل الذي تحصن به الإرهابيون ولم يتسنى لنا الوصول إلى المكان إلا بمعونة بعض المتساكنين، اكتشفنا حينئذ أن المنزل نسف نسفا فلم يعد يظهر للعيان من بعيد وقد استوى مع الأرض وسط سلسلة من غابات الزيتون والتين الشوكي اتي تشقها طرقات وعرة ومتشعبة.

أول ما يلفت الانتباه عند الوصول هو انتشار عدد من الأغراض الخاصة والملابس والأفرشة على الأرض ووسط الركام المتروك دون حراسة أو مراقبة. عدد كبير من هذه الملابس (أنظر الصور أسفله) لم تطلها النيران وبقيت ملقاة على الأرض وسط الركام، وهنا أتساءل أين الشرطة الفنية وفرقة مكافحة الإرهاب ولماذا لم تجمع تلك الأغراض للقيام بتحاليل فنية ورفع البصمات أو أي آثار للحمض النووي للإرهابيين... ولماذا لم يتم تطويق المكان وحماية المدنيين بمنعهم من الولوج إليه خاصة وأن المنزل كان يستخدم لتوزيع السلاح والمتفجرات وما يستتبعه ذلك من إمكانية وجود مواد متفجرة أو كيميائية خطيرة...


في أطوار العملية وغياب الخطة الأمنية

بعد الحديث إلى عدد من المتساكنين بسيدي على بن عون، انتقلنا إلى منزل أحد الأمنيين الذين أصيبوا في المواجهة للاطمئنان على حالته الصحية والشد على يده. لحسن حظه، تلقى ابراهيم رصاصة جانبية اخترقت فخذه الأيمن دون أن تمس العظم وخاصة دون النيل من معنوياته العالية التي وجدناه عليها، بالرغم من استيائه لعدم زيارته من قبل المسؤولين المحليين والجهويين بالولاية. تحدث إلينا ابراهيم بكثير من الأريحية والصراحة الممتزجة بالانضباط العسكري وقوة العزيمة والرغبة في الحفاظ على قدر عال من المهنية لينقل لنا ما دار أمام أعينه بكل موضوعية وتجرد.

لقد اعترف بكل شجاعة أن عملية سيدي علي بن عون كانت فاشلة بكل المقاييس حيث أشار النقائص التالية:

- غياب المعلومة الضافية والاستعداد الكافي قبل العملية : حيث أورد أن المسؤول الأمني (دون ذكر إسمه أو رتبته) الذي اجتمع بهم للإعداد للعملية اقتصر على الإشارة إلى "وجود معلومات حول تواجد مجموعة إرهابية متحصنة بالمنزل المذكور... ومتوفرة على كمية هامة من الأسلحة والذخيرة ويتراوح عددهم بين 20 و 25..."، دون الإشارة إلى تاريخ ورود المعلومة وتاريخ تحصن الإرهابيين ومدى استعدادهم وماهية نواياهم وخططهم ونوعية السلاح التي يحملونها...
- غياب الخطة الأمنية :  ما زاد الطين بلة هو غياب الخطة الأمنية لكيفية تموقع الأمنيين الذين أتوا على متن سبع سياسات وعدم التفكير في تطويق المكان قبل الهجوم وجس النبض ومحاصرة الإرهابيين من بعيد والتمركز مثلا في غابات الزيتون الخلفية مثلا لمنعهم الهروب إلى المناطق الجبلية... هذا علاوة على الإشارة إلى قدوم التعزيز بعد ساعة من المواجهة وسقوط شهداء مما أتاح الوقت للإرهابيين للهروب والتفرق بل وأيضا إطلاق النار من بعيد على الأمنيين بعد الهروب... ومما لفت انتباهي هو وصف ابراهيم للعملية بأنها كانت أشبه بتلك العمليات الكلاسيكية التي كانوا ينفذونها في جرائم تهريب الوقود أو الخمر... حيث صرح بأنهم كانوا متوقعين الاشتباك مع مجموعة تحمل أسلحة بيضاء لا إرهابيين مدججين بالسلاح والرشاشات وعلى أهبة لإطلاق النار من كل المنافذ والثقب التي أحدثها الإرهابيون في حصنهم وأطلقوا منها النيران قبل الهروب من الخلف، وما أدل على ذلك من وصفه لغياب تأهب الأمنيين لإطلاق النار حيث اصطفوا أمام المنزل متأهبين للموت لا للقتل...
- مبعوثون إلى الموت : صرح ابراهيم أن جل الأعوان الذين كانوا في الجبهة لم يكونوا يرتدون صدريات واقية وأن بعض الأعوان يحملون مسدسات بسيطة ذات مخازن صغيرة لا يتجاوز مداها عشرة أمتار ولاتزن شيئا في معادلة المواجهة مع إرهابيين يتوفرون على رشاشات وأسلحة متطورة،
- اجتماعات تحضيرية للإرهابيين بعلم الداخلية : وحسب نفس المصدر، فقد حضر خميس الماجري إلى سيدي على بن عون في الأيام الأخيرة قبل العملية للاجتماع بال"شباب السلفي" في المنطقة (وأستعمل عبارة "الشباب السلفي" بكثير من الاحتراز) وإمامة صلاة الجمعة...

وجوهر القول في هذا الجزء الأول أنه بعد الثورة لابد لكل مسؤول في الدولة أن يخضع للمساءلة والمحاسبة مهما علا منصبه، وأنا أطالب أن يفتح تحقيق عاجل في أسباب فشل عملية سيدي على بن عون ولاستجلاء الحقيقة في من وضع الخطة الأمنية (إن وجدت) ولماذا تأخر التعزيز بعد المواجهة وما سر الاجتماعات الألفية التي يعقدها "الإرهابيون" بعلم من وزارة الداخلية وهل تم التحري في مضمون هذه الاجتماعات وخلفياتها...؟ أسئلة أسوقها وأرسل بها خاصة إلى نقابات الأمن التي من واجبها التحري في الأمر وحماية مصالح الأمنيين وخاصة الأعوان الذين يواجهون الموت، فهل ستتحمل نقابات الأمن مسؤوليتها وتكشف الحقائق؟ هناك مسؤولون وقادة أمنيون قصروا في أداء مهماتهم بدءا من وزير الداخلية ورئيس الحكومة الذان يتحملان المسؤولية الأكبر في ما حدث في سيدي على بن عون خاصة وأنها لم تكن العملية الأولى من نوعها بعد عملية قبلاط، والسؤال الأهم الذي أطرحه، متى سيحاكم علي العريض على تقصيره في مسألة الإرهاب منذ توليه السلطة كوزير للداخلية، متى ستحاكم كل القيادات السياسية الني شجعت أو حرضت على الإرهاب؟ 

عندما يتحول شباب الثورة إلى حطب محرقة : أصل الداء

هل حدثتكم عن أنيس بڤاندا؟ إنه إسم شهرة لأحد شباب الثورة من سيدي بوزيد، شباب القصبة 1، وكم هم كثيرون أولئك الشباب الذي حرروا التونسيين من ربقة الاستبداد وأخرجوهم من الظلمات إلى النور ليقبعوا هم في عتمة الفقر والبطالة والذل، لم يجنوا من ثورتهم المغدورة سوى الجراح والرش وكل أشكال الإهانة والإذلال بينما يتربع غيرهم على عرش الحكم يتقاضون أجورهم بالأورو وتتجاوز مرتباتهم الشهرية إلى ما يتقاضاه عامل الحضائر سنويا.
هل تعرفون ماذا كان مصير أنيس بڤاندا؟ لقد مات أنيس في المحرقة السورية، مثله مثل الكثير من شباب الثورة الذين اختاروا طريق ليبيا ثم أنطاكيا ثم سوريا. هكذا اختار أنيس طريق الموت ولكنه أبى إلا أن يطبع موته بنوع من القداسة والأسطورة التي يحفظها الآن جزء من شباب سيدي بوزيد وغيرهم من شباب الجهات المنسية كنماذج من الموت البطولي التي انتشلت أنيس من المصير المخزي والموت البطيء لشباب صنع ثورة فكان مصيره النسيان والهوان.
لقد أسرّ لي، منذ أسابيع، أحد الأصدقاء من شباب الثورة في سيدي بوزيد (وأحد وجوه القصبة 1 و 2) عن نيته السفر مع مجموعة من الشباب إلى ليبيا قبل الانتقال بعد ذلك إلى سوريا. كانت صدمتي كبيرة من هول ما سمعت، فلم ألمس منه إلا حب الحياة وقوة الإرادة وصلابة الشخصية وروح الاكتساب والجهد. نجحت بفضل الله وبكثير من الحوار وخاصة الإصغاء في ثنيه عن هذا الطريق، طريق الدمار والموت. لم يتطلب مني ذلك أكثر من جهد الاستماع والإصغاء وعبارات التشجيع والدعوة إلى الرشد والتعقل.
 ما لم نقف وقفة تأمل هنا، في هذه الحالة الشاخصة أمامنا، ونستشعر عمق هذه  الفكرة الفارقة، هذه الأزمة التي هي أصل الداء، فلن نلج إلى الحل وسنظل نحارب السراب. 

عندما كتبت مقال "سيدي بوزيد والمافيا" منذ ما يزيد عن السنة، حذرت مما أسميته "غياب أو انسحاب الدولة" فكتبت :
"لا يمكن أن يفوت كل من يزور سيدي بوزيد أو زارها ملاحظة أمرين مدهشين، أوَلا غياب (أو انسحاب) شبه كلي للدولة اجتماعيا واقتصاديا مع حضور قوي للقمع البوليسي وثانيا استماتة في المطالبة بالكرامة الاجتماعية والحق في الشغل ومقاومة الاستبداد الجديد دون أن يمنع كل ذلك أهالي المنطقة من الأمل وحب العيش."

لم يتغير المشهد كثيرا مذلك الوقت، وكأن عقارب التاريخ توقفت. فقط تم تغيير الأزياء والأسماء، لقد صار شباب الثورة "إرهابيين" والقمع "حربا على الإرهاب". سأتوقف هنا لأفسر الجملة السابقة لخطورة الفكرة، وهي حمالة أوجه ومعاني وتقبل أكثر من تأويل. وحتى لا أتهم بشق صفوف الحرب على الإرهاب، دعوني أفسر:

في نفس المقال المذكور سابقا، كتبت : "انسحبت الدولة من كل المجالات، عدا القمع لحماية النظام من المواطنين متخلية عن حماية المواطنين. فيكفي أن تعلم أن أصدقاءنا في سيدي بوزيد منعونا من العودة إلى العاصمة ليلا خوفا علينا من قطاع الطرق، ولم نر في المقابل أثرا لدوريات حرس طول الطريق الفاصلة بين سيدي بوزيد ومدخل القيروان (طريق نصر الله...) رغم أن الطريق وعرة ومظلمة...".


وهنا من حقنا أن نتساءل، ألم يترك النظام، نظام 07 نوفمبر الذي لم يسقط بعد، الأمور تتعفن في سيدي بوزيد والقصرين والكاف وغيرها من الولايات التي قادت الثورة بالانسحاب وترك المجال ل"العصابات الاقتصادية" المرتبطة بالنظام القديم والجديد؟ ألم تنسحب الدولة من كل المجالات الاجتماعية والاقتصادية تاركة شباب الثورة يواجه مصيره ليكون خياره في آخر المطاف بين طريقين للموت، لمبدوزا أو سوريا؟ الطبيعة لا تحب الفراغ واليأس يولد الدمار. ألم يرتم الشباب في حضان الإرهابيين والتكفيريين أملا في الآخرة بعد اليأس من الدنيا؟ هل توجه الساسة إلى هذا الشباب "السلفي الجهادي" الذي يدفعه الكل إلى العزلة بقصفه عبر التشويه الإعلامي من جهة والدعاوى التكفيرية الداعية إلى الجهاد باسم نصرة الدين والمشروع الإسلامي...؟ ألا يساهم الإعلام الرسمي وقنوات وصحف حركة النهضة في خلط الأوراق والتشجيع على الإرهاب عندما تكتب جريدة الضمير أن "هناك مؤامرة ضد الشباب السلفي والمشروع الإسلامي"؟ وماذا فعلت حكومتكم المجرمة لانتشال هذا الشباب من عتمة الفقر والبؤس؟

روى لي أكثر من شاب قصته مع والي الجهة وكيف يتم تجاهل مبادراتهم ومشاريعهم ومعاملتهم بازدراء وتعال. لقد توقف سياسيونا عن زرع الأمل وبثه في النفوس، وما السياسة إن لم ترب الأمل؟ نعم نحن أمام سلسلة من الجرائم الاقتصادية والاجتماعية التي لا يتجرأ أحد على الخوض فيها. ألا يعد تهميش تلك الجهات وحرمانها من نصيبها في التنمية واستثمار الدولة فيها منذ عقود جريمة دولة تستوجب المحاكمة؟ ألم يبق مستشفى الكاف مثلا بلا طبيب مولد لأاكثر من عشرة أيام لتموت الرضيعة في بطن أمها وتدخل الأم في غيبوبة؟ ألا يشكل ذلك عوامل ودوافع للتفجير والانتقام والتشفي من دولة نبذت أبناءها وتنكرت لهم؟ ألا يواجه أبناء الجهات الداخلية بعضهم البعض في جبهة القتال، ففريق يحمل جلباب "السلفية الجهادية" وفريق يحمل "بزة الدولة"؟ ألا تبعثهم الدولة إلى الموت المحتوم؟ بينما ينشغل الساسة والقادة الأمنيون بالمنابر الإعلامية والمزايدات الكلامية شغفهم في ذلك حب الأضواء والمناصب والنفوذ؟ رسالة إلى الشباب "السلفي الجهادي"
أيها الشباب السلفي، اهجروا السلاح ولا توجهوا فوهة أسلحتكم إلى أبناء شعبكم، إن الحرب اليوم هي ضد الفقر والجهل والبطالة والظلم والحيف الطبقي والجهوي، ذلك هو الجهاد المقدس الذي كتبه الله علينا اليوم. أنتم تصيبون الثورة في أكثر من مقتل عندما تقتلون شباب تونس، إنهم منكم وإليكم وأنتم إخوتنا في الله والوطن فلماذا لا توجهون بندقيتكم إلى عدوكم الحقيقي، الفقر والجهل. أهجروا دعاة الفتنة فإنهم يدعونكم للشر ونحن ندعوكم للخير.
قبل أن أختم، وأنا في طريقي من سوسة إلي تونس، سمعت عبر الراديو خبر التفجير الذي جد أمام النزل بسوسة، لم يؤسفني الخبر بقدر ما آسفني تعليق المذيع الذي قال "توا كي الإرهاب استهدف جوهرة الساحل سوسة فعلى الدنيا السلام"، وهنا أتساءل : هل يعتبر الإعلاميون والسياسيون مناطق الشمال الغربي والوسط جزءا غريبا عن الوطن؟ نحن نأسف لكل روح تزهق في صفوف الأمنيين أو الشباب المتمرد من بنزرت إلى بن قردان، فتونس أرض واحدة وشعب واحد لا نفرق بين تونسي وتونسي. فلندعو المولى أن يهدينا لما فيه خير توني والتونسيين وأن يؤلف بين قلوبنا وأن ينزع من قلوبنا البغضاء والأحقاد.













أيوب المسعودي
29 أكتوبر 2013

mardi 22 octobre 2013

أزمة الثورة في تونس : بين الماضي والحاضر - 2

عامان على 23 أكتوبر

أزمة عقيدة التأسيس وغياب البناء الكلي





أحاول، بكثير من التواضع، في هذه السلسلة من المقالات التي بدأتها بمقال أول بعنوان "أزمة الثورة في تونس : بين الماضي والحاضر - 1" (أنظر الرابط)، أن أخرج من سياق التفكير الملألوف إلى سياق أرحب،  أن أشارك من موقعي المتواضع في بناء عقل مؤسِّس لا يلغي العقل المؤسَّس (1) ولكن يحاول بقدر المستطاع التحرر من أوثاقه وموروثه. وهي مهمة تزداد صعوبة مع اشتداد أزمة الحكم في تونس وانسداد الأفق السياسي مما أدى حتما إلى طغيان الآني على الاستشرافي والترقيعي على التأسيسي.


هكذا مر عامان على استقرار منظومة السلطة الجديدة، منظومة 23 أكتوبر، وبالرغم مما شهدته الساحة السياسية من تموجات وهزات وارتدادات، فقد ظل الواقع الاقتصادي والاجتماعي يراوح بين الجمود والتقهقر يحكمه تغول جماعة على حساب أخرى ورأسمالية المحاسيب والزبونية البغيظة وسياسات التبعية والإذلال في استمرار وتواصل مع سياسات نظام السابع من نوفمبر الذي كان التلميذ النجيب في نظر المنظمات المالية الدولية وما تبعها من وكالات تصنيف وتزويق... هذا واقع مرحلة كان يفترض أن تكون تأسيسية وأن تحدث قطيعة أخلاقية، سياسية ومجتمعية مع السائد قبل 17 ديسمبر، إلا أن السلطة الجديدة اختارت على عكس المنتظر الارتداد إلى الوراء رافضة القطيعة مع القديم والتأسيس للجديد فارتدت وانزوت وانعزلت.


أما المجلس التأسيسي فقد تحول إلى مجرد أداة تزكية في يد الأغلبية يشرع لها ويراقبها في آن، هذا علاوة على وهن الأداء وتدني مستوى الخطاب السياسي والعجز عن التعبير، بالوضوح الكافي،على تطلعات الجماهير والشباب الثائر بصفة خاصة. كل ذلك حول جلسات التأسيسي وحواراته إلى مشهد هو أقرب إلى صراع ديكة ومشهد مستفز للذكاء والحياء الشعبيين تطغى عليه المزايدات الكلامية التي لا ترتقي إلى الفعل السياسي المؤسس...

لسنا هنا بصدد تجريح نواب الشعب المنتخبين أو تقزيمهم، إلا أن دقة المرحلة وجسامة التحديات المطروحة وطنيا وإقليميا تستوجب وقفة فكرية نقدية تتجاوز العاطفي والمرحلي على حد السواء. وفي الحقيقة يعود هذا الانحراف إلى أزمة عميقة في التأسيس، أزمة ضاربة في عمق التاريخ وتطور أو بناء العقل العربي الإسلامي كما شخصه الفيلسوف الألمعي محمد عابر الجابري في سلسلة كتاباته النقدية عن العقل العربي...


نعم، لقد تميزالعقل العربي منذ "ترسيمه" في بداية الخلافة العباسية ومنذ عصر التدوين، في عهد الخليفة المنصور، بطغيان اللّغويّ الكلاميّ الشِّعري على المعنى والمنطق. وهو ما يشير إليه الجاحظ وكذلك الشهرستاني مثلا في كتاباتهم عندما يقارنون بين العقل العجمي (الفارسي واليوناني) والعربي واصفين الأول بأنه يتميز بالاجتهاد والاكتساب مقابل الحدس والارتجال عند الثاني. وليس غريبا أن يتزامن عصر التدوين هذا مع أول الإبداعات العلمية وربما أخطرها في التاريخ المعرفي العربي، إنه علم اللغة والنحو الذي وضع أسسه الخليل الفراهيدي ثم تلميذه سيبويه (وهو عمل جبار وذو قيمة وصلابة علمية مشهودة)... لا تكمن الخطورة في تقعيد اللغة، فقد استجاب هذا العمل إلى ضرورة تاريخية وإرادة سياسية في تعريب الإدارة والقطع مع هيمنة الفرس والرومان عليها، وإنما تكمن في الخلط بين المنطق واللغة. وسيحل النحو بالنسبة للعقل العربي محل المنطق بالنسبة للفلسفة الإغريقية. هكذا بنى الإمام الشافعي، في كتابه "الرسالة"، أصول الفقه وقنن عمل العقل وشرّع له متوخيا علوم اللغة والنحو مرجعا لاستنباط الأحكام من قوانين اللغة وآليات إفصاحها وتعبيرها عن المعاني... من الناحية السياسية كذلك، كان التدوين في مطلع الخلافة العباسية أكبر عملية لجمع العلوم وتبوبها وتصنيفها تحت إدارة الدولة مع ما شاب هذا المشروع من انتقاء وتوجيه لإضفاء الشرعية على الخلافة الوليدة بعد القضاء على الأمويين مع ما سيستتبعه ذلك من طمس للمنتوج العلمي والمعرفي والثقافي الأموي...  لقد كان ذلك عملية "ترسيم" للعقل العربي وتقنينا للرأي وتشريعا للإنتاج الفكري والمعرفي العربي. لا أريد أن أطيل في إعادة تفسير ما برع الجابري في بيانه والتدليل عليه في كتابه "تكوين العقل العربي" (2)، ولننصرف إلى محاولة قراءة تداعيات هذه الحقيقة التاريخية على واقعنا السياسي والاجتماعي الراهن.


أما على مستوى الخطاب السياسي الرسمي (سلطة ومعارضة)، فلا يختلف اثنان في كلل التونسيين ومللهم من المناكفات السياسوية التي تأخذ شكل مزايدات شعاراتية وطابعا كلاميا يفيض فيها اللفظ على المعنى والمنطق، وكأن فائض اللفظ على المعنى في العربية وجد امتدادا له عبر التاريخ فلم نخرج من لسان العرب لابن منظور وعروض الفراهيدي وإيقاع العربية ونغمتها "مما يجعل الأذن والحس والعاطفة تنوب عن العقل والمنطق في الرفض والقبول" (2).

وأما على مستوى "ترسيم الثورة" وتأميمها وخوصصتها وتحزيبها، فإذا أخذنا منظومة 23 أكتوبر وطبيعة تعاطيها مع الماضي القريب منه والقديم (التاريخ العربي والإسلامي وتاريخ تونس الوطني الحديث...)، وجدنا نزوعا مرضيا لإعادة إحياء معارك الماضي وتأجيجها، وهو ما عبر عنه الجابري ب"التنافس على الماضي" من أجل الهيمنة على الحاضر والاستحواذ عليه، وهو ما نراه بوضوح في محاولة فريق إحياء مسائل هوياتية مصطنعة والطعن في الموروث البورقيبي وما قامت عليه الدولة الوطنية الحديثة من مكاسب من أجل هدم الحاضر وإعادة بناءه على أساس رؤية فئوية للماضي. نحن لسنا هنا بصدد تمجيد الموروث البورقيبي، فلنا عليه مآخذات عديدة منها مسؤولية التصحر السياسي الذي أدى إلى أكثر من نصف قرن من حكم الحزب الواحد، بل إننا نذهب إلى أبعد من ذلك بالقول أن النظام البورقيبي نفسه قام ب"ترسيم الحركة الوطنية" وإعادة كتابتها على مقاس حكمه وأيديولوجيته بإقضاء كل المخالفين باغتيالهم أوقبر تاريخهم ونضالاتهم... نحن هنا أمام ظاهرة "عربية" لم تستثن أحدا قوامها التنافس على الماضي من أجل إعادة كتابة الحاضر والاستحواذ عليه وإعادة بناءه وفق مصلحة الجماعة أو الحزب أو الأيديولوجيا.
إعادة البناء هذه ترافقها اليوم عملية هدم لمؤسسات الدولة وقيم المجتمع التونسي المعتدل المتلاحم المتجانس قصد تشطيره وإضعاف وحدته قبل إحكام القبضة عليه باسم العودة للأصول والهوية وعبر إذكاء صراعات الماضي وتحويل وجهة الثورة من صراع طبقي على الوجود والتوزيع العادل للثورة والكرامة إلى خلاف فقهي وصراع هويات وهمية.

البناء الكلي بدل البناء الكلياني

إن السؤال الجوهري الذي نطرحه هنا هو متى بناء العقل العربي تاريخي الوعي كوني المنبع؟ ذلك العقل الذي يتنافس على المستقبل انطلاقا من الحاضر وما راكمته حضارتنا العربية الإسلامية العظيمة وسائر الحضارات التي استفادت من أعمال الفارابي وابن سيناء وابن رشد، أليس ابن رشد هو الذي سهل على أوروبا الحديثة فهم أرسطو منذ توماس الأكويني مما قادها إلى إحداث قطيعة معرفية وفلسفية وعلمية؟

سأسوق مثالين في التعاطي العاطفي المتشنج للعقل العربي مع إحدى أخطر القضايا الراهنة لأبين فشل هذا النوع من التعاطي وقصوره في تأدية المهمات المنوطة به.

فعلى صعيد مسألة التعريب، وإن كنت أعتبر نفسي من المتعصبين للغة العربية، فإنني أعتبر أن مسألة التعريب لم تطرح بالطريقة السليمة والعلمية والعقلانية التي تفضي بالفعل إلى انتشال اللغة الشريفة من حالة الهوان والفقر والانحطاط التي تتخبط فيها. إن تخلف اللغة العربية عن ركب الاكتشتفات العلمية والثورة الابستيمولوجية التي عرفها الغرب منذ عصر النهضة الأوروبية وانزواءها وانحصار الأخذ بها في مجال علوم الفقه (ومن ذلك قول الجابري أن الحضارة العربية هي حضارة فقه بامتياز(2))، كل ذلك أدى إلى تحولها إلى لغة جامدة لا تاريخية لم تتطورمنذ لسان العرب لابن منظور (القرن السابع هجري). إن تعريب الإدارة والتعليم، فرنسيّي النشأة، لا يكفي لإحياء اللغة العربية وإعادة بعثها كلغة "للعصر" ما لم تتحول إلى لغة لإنتاج المعرفة والتكنولوجيا والصناعة والمعرفة والثقافة والفن. وإذا نظرنا إلى هيمنة الغرب على صعيد المعرفة وصناعة المعرفة والكم الهائل من الحواجز الاقتصادية والقانونية وخاصة السياسية التي تحول دون ولوج العرب إلى عالم صناعة المعرفة (منظومة حماية الاختراعات وما يتكلفه ذلك من تمويل وموارد...) ومحاصرة تجارب التصنيع والتسلح الوطنية... سنجد أنفسنا أمام استنتاج واحد وهو ضرورة العمل على مستويين: مستوى أول يدعم اللغة العربية كلغة وطنية للإدارة وكذلك وخاصة العمل على إقليمي ودولي ودبلوماسي (كمكمل ضروري) من أجل مجابهة الحواجز المعرفية التي تحدثنا عنها سابقا على مستوى دولي وفي شكل جبهات دلبوماسية إقليمية، ومستوى ثان لدفع تعلم لغات المعرفة المعاصرة والتمكن منها ودعم البحث العلمي للحاق بركب الأمم بعد طول تأخر. إن الترجمة والتعريب لن يجديا نفعا قبل أن نتحول إلى قوى منتجة للفكر والمعرفة، وإن كان ذلك بلغة أجنبية، فيسهل بعد ذلك كسر الجمود الذي يعاني منه لسان العرب منذ قرابة السبعة قرون.

أما على صعيد السياسة الخارجية واستراتيجية العرب (إن وجدت) في مواجهة التحديات الإقليمية والقومية، فمن الوجاهة استحضار ما كتبه الشهرستاني في " العقلانية الفارسية الإيرانية مقابل القبلية والحدس العربي"،... وإن كنت أمقت فكرة العداوة الوهمية بين إيران 'الفارسية الشيعية" والعرب "السنة"، فإنه من الجدير، من الناحية التحليلية البحتة، دراسة ردود فعل الحكومات العربية بعد بوادر التقارب الأمريكي الإيراني حول الملف السوري... لم يجن العرب شيئا من سياسة الولاء الأعمى للأمريكان وهم يرون اليوم أن التقارب الإيراني الأمريكي يسقط في الماء كل طموحاتهم لضرب إيران، القوة العظمى الصاعدة، عن طريق أمريكا... ذلك لأن العرب (الحكام العرب) لطالما تفاوضوا مع الأمريكان فرادى ولم يؤسسوا أبدا لدور استراتيجي موحد، بل يمكن القول أنهم كانوا دوما يتآمرون مع الأمريكان ضد بعضهم البعض في سباق لاسترضاء سيد البيت الأبيض الذي كان، من جهته، حريصا على بث الفوضى والفتنة في جسد الأمة العربية قصد دفعها إلى سباق التسلح ضد الشعوب المقهورة، وضد بعضهم البعض وضد العدو الإيراني الوهمي لغاية إحكام القبضة على مواردنا وثرواتنا لنزيد تخلفا وفقرا وانقساما.


إن السبيل الوحيد للقطع مع هذا السائد البغيض القبيح هو استيعاب الماضي برمته  في ما يسمى بالعقل العربي الكلي كنقيض للكليانية. فإذا كانت الكليانية تقصي كل ما يتعارض وسلطة الحاكم المشرِّع، فإن العقل الكلي الكوني يشرِّع لوجود الكل داخل منظومة قوامها العقلانية والاستصلاح والاستحسان والاجتهاد من أجل بناء المستقبل، ووحده تشبيب الطبقة السياسية وتجديد فكرها ووعيها قادر على كسر هذا السائد والخروج بالواقع الضيق إلى مستقبل أرحب. ولن يتم هذا إلا باقتلاع النظام القائم الذي لا يثير الماضي إلا من أجل إعادة كتابته على هواه وترسيم نظريته في الماضي حاضرا ليظل العقل العربي سجين الماضي والشعب التونسي أسير الخلافات المذهبية ومعارك الجامعات وأحقاد الأحزاب وضغائن "الشخصيات الوطنية"؟ في الأثناء يواجه شباب الثورة اليأس والإحباط وذل البطالة ويلقى به في غياهب السجون أو في محارق الماضي كوقود حرب في معارك لا ناقة له ولا جمل فيها.

فليسقط النظام ولتحيى تونس.


أيوب المسعودي
22 أكتوبر 2013


المراجع

(1) - A. Lalande, "La raison et la Norme", pp 16 - 17, 1963
(2) - محمد عابد الجابري، "نقد العقل العربي"